موضوع خطبة الجمعة اليوم الجمعة 19 ديسمبر 2025
أعلنت وزارة الأوقاف، عن موضوع خطبة الجمعة 19 ديسمبر 2025، الموافق 28 جمادي الثاني 1447 هـ، بعنوان «فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً»، موضحة أن موضوع الخطبة الثانية يعالج قضية التفكك الأسري، وذلك ضمن مبادرة صحح مفاهيمك.
فيا عبادَ اللهِ، إنَّ في مقاماتِ الإيمانِ لحظاتٍ يرقُّ فيها القلبُ، وتصفو فيها النفسُ، ويستيقظُ ضميرُ المؤمنِ ليحاسبَ نفسَهُ على دقائقَ لا يلتفتُ إليها أهلُ الغفلةِ.
وإذا كان أولئك القومُ يحاسبونَ أنفسَهم على المشاعرِ، فكيفَ بحالِ منْ لا يبالي بآلامِ الناسِ أو حقوقِهِم؟ وكيفَ بمنْ يتغافلُ عن أوجاعِ المجتمعِ، أو يعتدي على مالِ الجماعةِ، وهو منْ أعظمِ الأماناتِ؟
يا عبادَ اللهِ، إنَّ منْ أجلِّ منازلِ السالكينَ إلى اللهِ منزلةً يرقُّ فيها القلبُ، وتخشعُ فيها النفسُ، ويرى العبدُ ذنوبَهُ وإنْ صغرتْ جبالًا توشكُ أنْ تقعَ عليهِ، تلكَ هي منزلةُ المحاسبةِ، المحاسبةُ التي تجعلُ المؤمنَ حيَّ القلبِ، لطيفَ الشعورِ، شديدَ المراقبةِ لنفسِهِ، لا تمرُّ عليهِ اللحظةُ إلَّا وهو يفتشُ فيها عنْ موضعِ رضا ربِّهِ.
وفي هذا المقامِ الجليلِ جاءتْ قصةُ السريِّ السقطيِّ رحمهُ اللهُ، وهي قصةٌ تُكتبُ بماءِ العبرةِ، وتُحكى لتهذيبِ النفوسِ، وقدْ رواها الخطيبُ البغداديُّ في تاريخِ بغدادَ (9/188)، والذهبيُّ في سيرِ أعلامِ النبلاءِ (12/186)، وابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ (11/18)، كلهم عنْ أبي بكرٍ الحربيِّ قالَ: سمعتُ السريَّ يقولُ: احترقَ السوقُ فقصدتُهُ، فلقيني رجلٌ فقالَ: أبشرْ، فإنَّ دكانَكَ قدْ سَلِمَ، قالَ السريُّ: فقلتُ الحمدُ للهِ، ثمَّ مضيتُ غيرَ بعيدٍ، فوقعَ في قلبي أني فرحتُ لنفسي، ولمْ أواسيِ الناسَ فيما همْ فيهِ، فأنا أستغفرُ اللهَ منْ ذلكَ الحمدِ منذُ ثلاثينَ سنةً.
اللهُ أكبرُ… أيُّ قلبٍ هذا؟ رجلٌ يستغفرُ اللهَ منْ كلمةِ حمدٍ قالَها، لا لأنَّ الحمدَ معصيةٌ حاشا للهِ، بل لأنَّهُ رأى في تلكَ اللحظةِ أنَّهُ انفردَ بالفرحِ وتركَ مواساةَ الناسِ في المصيبةِ، فكانتْ فرحتُهُ ناقصةً في ميزانِ التقوى، لأنَّها فرحةٌ لمْ تمتزجْ برحمةٍ ولا بشعورٍ بالجماعةِ.
أيُّ ورعٍ هذا يا عبادَ اللهِ؟ أيُّ نقاءٍ في السريرةِ؟ أيُّ حساسيةٍ في القلبِ؟ رجلٌ ينظرُ إلى داخلِ نفسِهِ قبلَ أنْ ينظرَ الناسُ إلى ظاهرِ عملِهِ، فيرى في قلبِهِ ما لو رآهُ غيرُهُ لعدَّهُ هينًا، ولكنَّ المؤمنَ ينظرُ بعينِ الحقِّ، بعينِ التقوى، بعينٍ ترى ما لا يراهُ الغافلونَ.
وهذا المعنى الذي عاشَهُ السريُّ يومَ احترقَ السوقُ هو بذاتِهِ معنى منْ معاني حديثِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: “لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ“. (متفقٌ عليهِ، البخاري 13، ومسلم 45).
وهذا هو الفرقُ بينَ المؤمنِ والغافلِ، الغافلُ ينظرُ إلى نفسِهِ، والمؤمنُ ينظرُ إلى نفسِهِ وإلى الناسِ معها. الغافلُ إذا نجا فرحَ ولو هلكَ الناسُ، والمؤمنُ إذا نجا خافَ لأنَّ الفرحةَ إذا انفردتْ عنْ مواساةِ الناسِ أصبحَ فيها معنى الأنانيةِ الذي يكرهُهُ اللهُ لعبادِهِ.
ولذلكَ كانَ السلفُ يقولونَ: ربَّ حسنةٍ أورثتْ عُجبًا، فهي عندَ اللهِ سيئةٌ، وربَّ كلمةٍ صالحةٍ لمْ تصحبْها نيةٌ خالصةٌ، فكانتْ على صاحبِها وبالًا. فإذا كانَ هذا في الحسناتِ والكلماتِ، فكيفَ إذا كانَ في المشاعرِ والنياتِ؟
ولذلكَ كانتْ محاسبةُ النفسِ أصلًا منْ أصولِ الإيمانِ، قالَ تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوٰاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]. قالَ الطبريُّ في تفسيرِهِ (20/77): “قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَابَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا وَأَغْوَاهَا. وَقِيلَ: أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قال قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ زَكَا الزَّرْعُ: إِذَا كَثُرَ رِيعُهُ”.
وهذا ما أشارَ إليهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ في الحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ (2564): “إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم”. فالقلبُ هو موضعُ نظرِ الربِّ، ومنْ عرفَ هذا استقامَ قلبَهُ قبلَ أنْ يُصلحَ ظاهرَهُ، وراقبَ نيتَهُ قبلَ أنْ يزنَ عملَهُ.
يا عبادَ اللهِ، إنَّ القلبَ الذي لا يلينُ لمصابِ الناسِ قلبٌ قاسٍ، والقلبُ القاسي هو أبعدُ القلوبِ عنْ اللهِ تعالى، وقدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: “لا تُنْزَعُ الرَّحمةُ إلَّا منْ شقيٍّ”. (أبو داود 4942، والترمذي 1923، وأحمد 8001 صحيح).












